فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنّ لِّلْمُتّقِين عِنْد ربِّهِمْ جنّاتِ النعيم}
تقدم القول فيه؛ أي إن للمتقين في الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص، لا يشوبه ما ينغّصه كما يشوب جنات الدنيا.
وكان صناديد قريش يرون وفور حظّهم من الدنيا وقلّة حظوظ المسلمين منها؛ فإذا سمعوا بحديث الآخرة وما وعد الله المؤمنين قالوا: إن صحّ أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا، وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا، وأقصى أمرهم أن يساوونا.
فقال: {أفنجْعلُ المسلمين كالمجرمين} أي كالكفار.
وقال ابن عباس وغيره: قالت كفار مكة: إنا نُعطى في الآخرة خيرا مما تُعْطوْن؛ فنزلت {أفنجْعلُ المسلمين كالمجرمين} ثم وبخهم فقال: {ما لكُمْ كيْف تحْكُمُون} هذا الحكم الأعوج؛ كأن أمر الجزاء مفوّض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم أن لكم من الخير ما للمسلمين.
{أمْ لكُمْ كِتابٌ فِيهِ تدْرُسُون} أي ألكم كتاب تجدون فيه المطيع كالعاصي.
{إِنّ لكُمْ فِيهِ لما تخيّرُون} تختارون وتشتهون.
والمعنى: أنّ لكم (بالفتح) ولكنه كسر لدخول اللام؛ تقول علمت أنك عاقل (بالفتح)، وعلمت إنك لعاقل (بالكسر).
فالعامل في {إِنّ لكُمْ فِيهِ لما تخيّرُون} {تدْرُسُون} في المعنى.
ومنعت اللام من فتح (أن).
وقيل: تم الكلام عند قوله: {تدْرُسُون} ثم ابتدأ فقال: {إِنّ لكُمْ فِيهِ لما تخيّرُون} أي إن لكم في هذا الكتاب إذا ما تخيرون؛ أي ليس لكم ذلك.
والكناية في {فيه} الأولى والثانية راجعة إلى الكتاب.
ثم زاد في التوبيخ فقال: {أمْ لكُمْ أيْمانٌ} أي عهود ومواثيق.
{عليْنا بالِغةٌ} مؤكدة.
والبالغة المؤكّدة بالله تعالى.
أي أم لكم عهود على الله تعالى استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة.
{إِنّ لكُمْ لما تحْكُمُون} كُسرت {أن} لدخول اللام في الخبر.
وهي من صلة {أيمان}، والموضع النصب ولكن كسرت لأجل اللام؛ تقول: حلفت إن لك لكذا.
وقيل: تم الكلام عند قوله: {إلى يوْمِ القيامة} ثم قال: {إِنّ لكُمْ لما تحْكُمُون} إذا؛ أي ليس الأمر كذلك.
وقرأ ابن هُرْمُز {أيْن لكُمْ فِيهِ لما تخّيرون} {أين لكم لما تحكمون}؛ بالاستفهام فيهما جميعا.
وقرأ الحسن البصري {بالغة} بالنصب على الحال؛ إما من الضمير في {لكم} لأنه خبر عن {أيمان} ففيه ضمير منه.
وإما من الضمير في {عليْنا} إن قدّرت {علينا} وصفا للأيمان لا متعلقا بنفس الأيمان؛ لأن فيه ضميرا منه، كما يكون إذا كان خبرا عنه.
ويجوز أن يكون حالا من {أيمان} وإن كانت نكرة، كما أجازوا نصب {حقّا} على الحال من {متاع} في قوله تعالى: {متاعٌ بالمعروف حقّا على المتقين} [البقرة: 241] وقرأ العامة {بالغةٌ} بالرفع نعت ل {أيمان}.
قوله تعالى: {سلْهُمْ أيُّهُم بِذلِك زعِيمٌ} أي سل يا محمد هؤلاء المتقولين عليّ: أيُّهم كفيل بما تقدم ذكره.
(وهو أن لهم من الخير) ما للمسلمين.
والزعيم: الكفِيل والضّمين؛ قاله ابن عباس وقتادة.
وقال ابن كيسان: الزعيم هنا القائم بالحجة والدعوى.
وقال الحسن: الزعيم الرسول.
{أمْ لهُمْ شُركاءُ} أي ألهم والميم صلة.
{شُركاء} أي شهداء.
{فلْيأتُواْ بِشُركآئِهِمْ} يشهدون على ما زعموا.
{إِن كانُواْ صادِقِين} في دعواهم.
وقيل: أي فليأتوا بشركائهم إن أمكنهم؛ فهو أمر معناه التعجيز. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنّ لّلْمُتّقِين} أي من الكفر كما في (البحر) أو منه ومن المعاصي كما في (الإرشاد) {عِند ربّهِمْ} أي في الآخرة فإنها مختصة به عز وجل إذ لا يتصرف فيها غيره جل جلاله أو في جوار قدسه {جنات النعيم} جنات ليس فيها إلا النعيم الخالص عن شائبة ما ينغصه من الكدورات وخوف الزوال وأخذ الحصر من الإضافة إلى النعيم لإفادتها التميز من جنات الدنيا والتعريض بأن جنات الدنيا لغالب عليها النغص.
طبعت على كدر وأنت تريدها ** صفوا من الأقذار والأكدار

وقوله تعالى: {أفنجْعلُ المسلمين كالمجرمين}
تقرير لما قبله من فوز المتقين ورد لما يقوله الكفرة عند سماعهم بحديث الآخرة وما وعد الله تعالى إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا والألم يزيدوا علينا ولم يفضلونا وأقصى أمرهم أن يساوونا والهمزة للإنكار والفاء للعطف والعطف على مقدر يقتضيه المقال أي فيحيف في الحكم فيجعل المسلمين كالكافرين ثم قيل لهم بطريق الالتفات لتأكيد الرد وتشديده.
{ما لكُمْ كيْف تحْكُمُون}
تعجبا من حكمهم واستبعادا له وإيذانا بأنه لا يصدر من عاقل إذ معنى مالكم أي شيء حصل لكم من خلل الفكر وفساد الرأي.
{أمْ لكُمْ كتاب} نازل من السماء {فِيهِ} أي في الكتاب والجار متعلق بقوله تعالى: {تدْرُسُون} أي تقرؤن فيه والجملة صفة كتاب وجوز أن يكون فيه متعلقا بمتعلق الخبر أو هو الصفة والضمير للحكم أو الأمر وتدرسون مستأنف أو حال من ضمير الخطاب وقوله تعالى: {إِنّ لكُمْ فِيهِ لما تخيّرُون} أي للذي تختارونه وتشتهونه يقال تخير الشيء واختاره أخذ خيره وشاع في أخذ ما يريده مطلقا مفعول {تدرسون} [القلم: 37] إذ هو المدروس فهو واقع موقع المفرد وأصله أن لكم فيه ما تخيرون بفتح همزة أن وترك اللام في خبرها فلما جيء باللام كسرت الهمزة وعلق الفعل عن العمل ومن هنا قيل أنه لابد من تضمين {تدرسون} [القلم: 37] معنى العلم ليجري فيه العمل في الجمل والتعليق وجوز أن يكون هذا حكاية للمدروس كما هو عليه فيكون بعينه لفظ الكتاب من غير تحويل من الفتح للكسر وضمير فيه على الأول للكتاب وأعيد للتأكيد وعلى هذا يعود لأمرهم أو للحكم فيكون محصل ما خط في الكتاب أن الحكم أو الأمر مفوض لهم فسقط قول صاحب التقريب أن لفظ فيه لا يساعده للاستغناء بفيه أولا من غير حاجة إلى جعل ضمير فيه ليوم القيامة بقرينة المقام أو للمكان المدلول عليه بقوله تعالى: {عند ربهم} [القلم: 37] وعلى الاستئناف هو للحكم أيضا وجوز الوقف على تدرسون على أن قوله تعالى: {إِنّ لكُمْ} إلخ استئناف على معنى إن كان لكم كتاب فلكم فيه ما تتخيرون وهو كما ترى والظاهر إن {أمْ لكُمْ} إلخ مقابل لما قبله نظرا لحاصل المعنى إذ محصله أفسد عقلكم حتى حكمتكم بهذا أم جاءكم كتاب فيه تخييركم وتفويض الأمر إليكم وقرأ طلحة والضحاك آن لكم بفتح الهمزة واللام في لما زائدة كقراءة من قرأ {إلا أنهم ليأكلون الطعام} [الفرقان: 20] بفتح همزة أنهم وقرأ الأعرج أن لكم بالاستفهام على الاستئناف.
{أمْ لكُمْ أيمان عليْنا} أي أقسام وفسرت بالعهود وإطلاق الإيمان عليها من إطلاق الجزء على الكل أو اللازم على الملزوم {بالغة} أي أقصى ما يمكن والمراد متناهية في التوكيد وقرأ الحسن وزيد بن علي بالغة بالنصب على الحال من الضمير المستتر في علينا أو لكم وقال ابن عطية من أيمان لتخصيصها بالوصف وفيه بعد {إلى يوْمِ القيامة} متعلق بالمقدر في لكم أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة لا نخرج عن عهدتها إلا يومئذٍ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون أو متعلق ببالغة أي أيمان تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه وافرة لم يبطل منها يمين فإلى على الأول: لغاية الثبوت المقدر في الظرف فهو كأجل الدين وعلى الثاني: لغاية البلوغ فهي قيد اليمين أي يمينا مؤكدا لا ينحل إلى ذلك اليوم وليس من تأجيل المقسم عليه في شيء إذ لا مدخل لبالغة في المقسم عليه فتأمل وقوله تعالى: {إِنّ لكُمْ لما تحْكُمُون} جواب القسم لأن معنى أم لكم أيمان علينا أم أقسمنا لكم وهو جار على تفسير الأيمان بمعنى العهود لأن العهد كاليمين من غير فرق فيجاب بما يجاب به القسم وقرأ الأعرج {آن لكم} بالاستفهام أيضا.
{سلْهُمْ} تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسقاطهم عن رتبة الخطاب أي سلهم مبكتا لهم {أيُّهُم بذلك} الحكم الخارجي عن دائرة العقول {زعِيمٌ} قائم يتصدى لتصحيحه والجملة الاستفهامية في موضع المعمول الثاني لسل والفعل عند أبي حيان وجماعة معلق عنها لمكان الاستفهام وكون السؤال منزلا منزلة العلم لكونه سببا لحصوله.
{أمْ لهُمْ شُركاء} يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم {فلْيأتُواْ بِشُركائِهِمْ إِن كانُواْ صادقين} في دعواهم إذ لا أقل من التقليد وقد نبه سبحانه وتعالى في هذه الآيات على نفي جميع ما يمكن أن يتعلقوا به في تحقيق دعواهم حيث نبه جل شأنه على نفي الدليل العقلي بقوله تعالى: {ما لكم كيف تحكمون} [القلم: 37] وعلى نفي الدليل النقلي بقوله سبحانه: {أمْ لكُمْ كتاب} [القلم: 37] إلخ وعلى نفي أن يكون الله تعالى وعدهم بذلك ووعد الكريم دين بقوله سبحانه: {أمْ لكُمْ أيمان عليْنا} إلخ.
وعلى نفي التقليد الذي هو أوهن من حبال القمر بقوله عز وجل: {أمْ لهُمْ شُركاء} [القلم: 39] وقيل المعنى أم لهم آلهة عدوها شركاء في الألوهية تجعلهم كالمسلمين في الآخرة وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة فليأتوا بشركهم والمراد به ما أريد بشركائهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنّ لِلْمُتّقِين عِنْد ربِّهِمْ جنّاتِ النّعِيمِ (34)}
استئناف بياني لأن من شأن ما ذكر من عذاب الآخرة للمجرمين أن ينشأ عنه سؤال في نفس السامع يقول: فما جزاء المتقين؟ وهو كلام معترض بين أجزاء الوعيد والتهديد وبين قوله: {سنسمه على الخرطوم} [القلم: 16] وقوله: {كذلك العذاب} [القلم: 33].
وقد أشعر بتوقع هذا السؤال قوله بعده: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} [القلم: 35] كما سيأتي.
وتقديم المسند على المسند إليه للاهتمام بشأن المتقين ليسبق ذكرُ صفتهم العظيمة ذكْر جزائها.
واللام للاستحقاق.
و {عند} ظرف متعلق بمعنى الكون الذي يقتضيه حرف الجر، ولذلك قُدم متعلّقُه معه على المسند إليه لأجل ذلك الاهتمام.
وقد حصل من تقديم المسند بما معه طولٌ يثير تشويق السامع إلى المسند إليه.
والعِندية هنا عندية كرامةٍ واعتناء.
وإضافة {جنات} إلى {النعيم} تفيد أنها عُرفت به فيشار بذلك إلى ملازمة النعيم لها لأن أصل الإِضافة أنها بتقدير لام الاستحقاق ف {جنات النعيم} مفيد أنها استحقها النعيم لأنها ليس في أحوالها إلاّ حال نعيم أهلها، فلا يكون فيها ما يكون في جنات الدّنيا من المتاعب مثل الحرّ في بعض الأوقات أو شدة البرد أو مثل الحشرات والزنانير، أو ما يؤذي مثل شوك الأزهار والأشجار وروث الدواب وذرق الطير.
{أفنجْعلُ الْمُسْلِمِين كالْمُجْرِمِين (35)}
فاء التفريع تقتضي أن هذا الكلام متفرع على ما قبله من استحقاق المتقين جنات النعيم، ومقابلته بتهديد المشركين بعذاب الدّنيا والآخرة، ولكن ذلك غير مصرح فيه بما يناسب أن يتفرع عليه هذا الإنكار والتوبيخ فتعيّن تقدير إنكار من المعرض بهم ليتوجه إليهم هذا الاستفهام المفرع، وهو ما أشرنا إليه آنفا من توقع أو وقوع سؤال.
والاستفهام وما بعده من التوبيخ، والتخطئة، والتهكم على إدلالهم الكاذب، مؤذن بأن ما أنكر عليهم ووبخوا عليه وسُفهوا على اعتقاده كان حديثا قد جرى في نواديهم أو استسخروا به على المسلمين في معرض جحود أن يكون بعث، وفرضهم أنه على تقدير وقوع البعث والجزاء لا يكون للمسلمين مزية وفضل عند وقوعه.
وعن مقاتل لما نزلت آية: {إن للمتقين عند ربّهم جنات النعيم} [القلم: 34] قالت قريش: إن كان ثمة جنة نعيم فلنا فيها مثل حظنا وحظهم في الدّنيا، وعن ابن عباس أنهم قالوا: إنا نعطى يومئذٍ خيرا مما تُعطون فنزل قوله: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} الآية.
والهمزة للاستفهام الإِنكاري، فرع إنكار التساوي بين المسلمين والكافرين على ما سبق من اختلاف جزاء الفريقين فالإِنكار متسلط على ما دار بين المشركين من القول عند نزول الآية السابقة أو عند نزول ما سبقها من آي القرآن التي قابلت بين جزاء المؤمنين وجزاء المشركين كما يقتضيه صريحا قوله: {ما لكم كيف تحكمون} إلى قوله: {إن لكم لما تحكمون} [القلم: 39].
وإنكار جعل الفريقين متشابهين كناية عن إعطاء المسلمين جزاء الخير في الآخرة وحرمان المشركين منه، لأن نفي التساوي وارد في معنى التضاد في الخير والشر في القرآن وكلام العرب قال تعالى: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون} [السجدة: 18]، وقال: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} [الحشر: 20]، وقال: {أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} [ص: 28] وقال السموأل أو الحارثي:
سلي إن جهِلْتتِ الناس عنّا وعنهمُ ** فليس سواء عالم وجهول

وإذا انتفى أن يكون للمشركين حظ في جزاء الخير انتفى ما قالوه من أنهم أفضل حظا في الآخرة من المسلمين كما هو حالهم في الدّنيا بطريق فحوى الخطاب.
وقوله: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} كلام موجه إلى المشركين وهم المقصود بـ {المجرمين} عُبر عنهم بطريق الإِظهار دون ضمير الخطاب لما في وصف {المجرمين} من المقابلة ليكون في الوصفين إيماء إلى سبب نفي المماثلة بين الفريقين.
فلذلك لم يكن ضمير الخطاب في قوله: {ما لكم كيف تحكمون} التفاتا عن ضمائر الغيبة من قوله: {ودُّوا لو تدهن فيدهنون} [القلم: 9] وقوله: {إنا بلوناهم} [القلم: 17].
وإنما تغير الضمير إلى ضمير الخطاب تبعا لتغير توجيه الكلام، لأن شرط الالتفات أن يتغير الضمير في سياق واحد.
و {ما لكم} استفهام إنكاري لحالة حكمهم، ف {ما لكم} مبتدأ وخبر وقد تقدم في قوله تعالى: {قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله} في سورة البقرة (246).
و{كيف تحكمون} استفهام إنكاري ثان في موضع الحال من ضمير {لكم} أي انتفى أن يكون لكم شيء في حال حكمكم، أي فإن ثبت لهم كان منكرا باعتبار حالة حكمهم.
والمعنى: لا تحكمون أنكم مساوون للمسلمين في جزاء الآخرة أو مفضلون عليهم.
{أمْ لكُمْ كِتابٌ فِيهِ تدْرُسُون (37)}
إضراب انتقال من توبيخ إلى احتجاج على كذبهم.
والاستفهام المقدر مع {أم} إنكار لأن يكون لهم كتاب إنكارا مبنيا على الفرض وإن كانوا لم يدّعوه.
وحاصل هذا الانتقال والانتقالات الثلاثة بعده وهي {أم لكم أيمان علينا} [القلم: 39] الخ، {سلهم أيهم بذلك زعيم} [القلم: 40] {أم لهم شركاء} [القلم: 41] إلخ أن حكمكم هذا لا يخلو من أن يكون سنده كتابا سماويا نزل من لدنا، وإما أن يكون سنده عهْدا منا بأنا نعطيكم ما تقترحون، وإما أن يكون لكم كفيل علينا، وأما أن يكون تعويلا على نصر شركائكم.
وتقديم {لكم} على المبتدأ وهو {كِتاب} لأن المبتدأ نكرة وتنكيره مقصود للنوعية فكان تقديم الخبر لازما.
وضمير {فيه} عائد إلى الحكم المفاد من قوله: {كيف تحكمون} [القلم: 36]، أي كتاب في الحكم.
و(في) للتعليل أو الظرفية المجازية كما تقول ورد كتاب في الأمر بكذا أو في النهي عن كذا فيكون {فيه} ظرفا مستقرا صفة ل {كتاب}.
ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى {كتاب} ويتعلق المجرور بفعل {تدرسون} جعلت الدراسة العميقة بمزيد التبصر في ما يتضمنه الكتاب بمنزلة الشيء المظروف في الكتاب كما تقول: لنا درس في كتاب سيبويه.
وفي هذا إدماج بالتعريض بأنهم أمِّيُّون ليسوا أهل كتاب وأنهم لما جاءهم كتاب لهديهم وإلحاقهم بالأمم ذات الكتاب كفروا نعمته وكذبوه قال تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون} [الأنبياء: 10] وقال: {أو تقولوا لوْ أنا أُنزل علينا الكتاب لكُنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربّكم وهدى ورحمة} [الأنعام: 157].
وجملة {إنّ لكم فيه لما تخيّرون} في موضع مفعول {تدرسون} على أنها محكي لفظها، أي تدرسون هذه العبارة كما جاء قوله تعالى: {وتركنا عليه في الآخرين سلامٌ على نوح في العالمين} [الصافات: 78، 79] أي تدرسون جملة {إِنّ لكم فيه لما تخيّرون}.
ويكون فيه توكيدا لفظيا لنظيرها من قوله: {فيه تدرسون} قصد من إعادتها مزيد ربط الجملة بالتي قبلها كما أعيدت كلمة (من) في قوله تعالى: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا} [النحل: 67] وأصله: تتخذون سكرا.
و {تخيرون} أصله تتخيرون بتاءين، حذفت إحداهما تخفيفا.
والتخير: تكلف الخير، أي تطلب ما هو في أخير.
والمعنى: إن في ذلك الكتاب لكم ما تختارون من خير الجزاء.
{أمْ لكُمْ أيْمانٌ عليْنا بالِغةٌ إِلى يوْمِ الْقِيامةِ إِنّ لكُمْ لما تحْكُمُون (39)}
{أم} للانتقال إلى دليل آخر وهو نفي أن يكون مستند زعمهم عهدا أخذوه على الله لأنفسهم أن يعاملهم يوم القيامة بما يحكمون به لأنفسهم، فالاستفهام اللازم تقديره بعد {أم} إنكاري و{بالغة} مؤكّدة.
وأصل البالغة: الواصلة إلى ما يُطلب بها، وذلك استعارة لمعنى مغلظة، شبهت بالشيء البالغ إلى نهاية سيره وذلك كقوله تعالى: {قل فللّه الحجة البالغة} [الأنعام: 149].
وقوله: {علينا} صفة ثانية ل {أيمان} أي أقسمناها لكم لإِثبات حقكم علينا.
و {إلى يوم القيامة} صفة ثالثة ل {أيمان} أي أيمان مُؤبدة لا تحلّة منها فحصل من الوصفين أنها عهود مؤكدة ومستمرة طول الدّهر، فليس يومُ القيامة منتهى الأخذ بتلك الأيمان بل هو تنصيص على التأييد كما في قوله تعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة} في سورة الأحقاف (5).
ويتعلق {إلى يوم القيامة} بالاستقرار الذي في الخبر في قوله: {لكم أيمان} ولا يحسن تعلقه بـ {بالغة} تعلق الظرف اللغو لأنه يصير {بالغة} مستعملا في معنى مشهور قريب من الحقيقة، ومحملُ {بالغة} على الاستعارة التي ذكرنا أجزل وجملة {إن لكم لما تحكمون} بيان ل {أيمان} أي أيمان بهذا اللفظ.
ومعنى (ما تحكمون) تأمرون به دون مراجعة، يقال: نزلوا على حكم فلان، أي لم يعينوا طِلبة خاصة ولكنهم وكلوا تعيين حقهم إلى فلان، قال خطاب أو حطان بن المُعلّى:
أنزلني الدّهر على حكمه ** من شامخٍ عالٍ إلى خفض

أي دون اختيار لي ولا عمل عملته فكأنني حكمت الدّهر فأنزلني من معاقلي وتصرف فيّ كما شاء.
ومن أقوالهم السائرة مسرى الأمثال (حُكْمُك مُسمّطا) (بضم الميم وفتح السين وفتح الميم الثانية مشددة) أي لك حكمك نافذا لا اعتراض عليك فيه.
وقال ابن عثمة:
لك المِرباع منها والصفايا ** وحكْمُك والنشيطةُ والفُضول

{سلْهُمْ أيُّهُمْ بِذلِك زعِيمٌ (40)}
استئناف بياني عن جملة {أم لكم أيمان علينا بالغة} [القلم: 39]، لأن الأيمان وهي العهود تقتضي الكفلاء عادة قال الحارث بن حِلِّزة:
واذكُروا حِلف ذِي المجاز وما قُدِّ ** م فيه العهودُ والكفلاء

فلما ذُكر إنكار أن يكون لهم عهود، كُمل ذلك بأن يطلب منهم أن يعينوا من هم الزعماء بتلك الأيمان.
فالاستفهام في قوله: {سلهم أيهم بذلك زعيم} مستعمل في التهكم زيادة على الإِنكار عليهم.
والزعيم: الكفيل وقد جعل الزعيم أحدا منهم زيادة في التهكم وهو أن جعل الزعيم لهم واحدا منهم لعزتهم ومناغاتهم لكبرياء الله تعالى.
{أمْ لهُمْ شُركاءُ فلْيأْتُوا بِشُركائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِين (41)}
{أم} إضراب انتقالي ثالث إلى إبطال مستند آخر مفروض لهم في سند قولهم: إِنا نعْطى مثل ما يُعطى المسلمون أو خيرا مما يُعطونه، وهو أن يُفرض أن أصنامهم تنصرهم وتجعل لهم حظا من جزاء الخير في الآخرة.
والمعنى: بل أثبتت لهم، أي لأجلهم ونفعهم شركاءُ، أي شركاء لنا في الإلهية في زعمهم، فحذف متعلق {شركاء} لشهرته عندهم فصار شركاء بمنزلة اللقب، أي أم آلهتهم لهم فليأتوا بهم لينفعوهم يوم القيامة.
واللام في {لهم} لام الأجل، أي لأجلهم بتقدير مضاف، أي لأجل نصرهم، فاللام كاللام في قول أبي سفيان يوم أحد (لنا العزى ولا عزى لكم).
وتنكير {شركاء} في حيز الاستفهام المستعمل في الإِنكار يفيد انتفاء أن يكون أحد من الشركاء، أي الأصنام لهم، أي لنفعهم فيعم أصنام جميع قبائل العرب المشترك في عبادتها بين القبائل، والمخصوصة ببعض القبائل.
وقد نقل أسلوب الكلام من الخطاب إلى الغيبة لمناسبة وقوعه بعد {سلْهُم أيهم بذلك زعيم} [القلم: 40]، لأن أخص الناس بمعرفة أحقّية هذا الإِبطال هو النبي صلى الله عليه وسلم وذلك يستتبع توجيه هذا الإِبطال إليهم بطريقة التعريض.
والتفريع في قوله: {فليأتوا بشركائهم} تفريع على نفي أن تنفعهم آلهتهم، فتعين أن أمر {فليأتوا} أمر تعجيز.
وإضافة {شركاء} إلى ضميرهم في قوله: {فليأتوا بشركائهم} لإِبطال صفة الشركة في الإلهية عنهم، أي ليسوا شركاء في الإلهية إلاّ عند هؤلاء فإن الإلهية الحق لا تكون نسبية بالنسبة إلى فريق أو قبيلة.
ومثل هذا الإِطلاق كثير في القرآن ومنه قوله: {قل ادعوا شركاءكم ثم كِيدُون فلا تُنظرون} [الأعراف: 195]. اهـ.